
دوّن… لأنك تعمل
- سُلاف المقوشي
- 10 أبريل
- 2 دقائق قراءة
في زحمة الاجتماعات، وتراكم المهام، وضغط الإيميلات، يختفي شيء بسيط لكنه جوهري: التدوين. لا أقصد التدوين من أجل النشر، ولا الكتابة لتجميل الواقع، بل التدوين كفعل داخلي، كأداة للنجاة وسط فوضى العمل اليومية. التدوين، ببساطة، هو أن تكون حاضرًا.
في كل مشروع مررت به، كان عندي دفتر. دفتر ورقي حقيقي، فيه أفكار وأسئلة وتعليقات كتبتها لنفسي فقط. لم أكن أكتب لأُعجب أحدًا، بل لأفهم. لأفهم ما الذي يحدث فعلًا، لا ما يُقال في العروض الرسمية. التدوين كان طريقة لاستيعاب التفاصيل، لفك تشابك القرارات، وللتأمل في ردود الأفعال.
الذاكرة خائنة بطبعها. ننسى ما قيل، ومن قاله، ولماذا قيل. لكن التدوين لا يخون. عندما ترجع لملاحظاتك بعد أشهر، تكتشف أنك كنت ترى الصورة أوضح مما كنت تظن. وربما القرار الذي ندمت عليه، كنت قد لمحته بوضوح، لكنك تجاهلت الإشارة.
في بيئة العمل، وخصوصًا في القطاع الحكومي، كل شيء له سياق، والسياق لا يُمنح… بل يُكتشف. والتدوين هو الطريقة الوحيدة لرؤية هذا السياق بوضوح. الملاحظة التي كتبتها على الهامش بعد اجتماع جانبي، قد تكون المفتاح الذي تحتاجه في لحظة حاسمة لاحقًا.
ولأنك تعمل في حكومة، فإن كل شيء مترابط. الخطاب الذي تكتبه اليوم، مبني على مراسلة قديمة من عام مضى. والقرار الصادر الآن، قد يكون امتدادًا لقرار آخر لا تعرفه، لكنه في ملف منسي في نظام الأرشفة. وإن لم تكن ممن يدوّنون، فغالبًا ستكون ممن يسألون باستمرار: من قال؟ ولماذا؟ ومتى؟
التدوين ليس عادة مملة، بل هو أداة تعلم. في بداياتي، كنت أكتب كل مصطلح لا أفهمه لأبحث عنه لاحقًا. كنت أدوّن حتى نبرة صاحب المعالي عندما طرح سؤالًا أربكني، لأتعلّم لا فقط كيف أجيب، بل متى أجيب، ومتى أكتفي بالصمت.
التدوين لا يدل على ضعف، ولا يبطئك عن العمل. بل هو دليل على أنك تعمّقت بما فيه الكفاية لترى ما لا يُقال. الموظف الذي يدون، هو الذي يبني لنفسه أرشيفًا ذهنيًا يعود إليه عند الحاجة. هو الذي يحوّل التجربة اليومية إلى معرفة حقيقية، قابلة للنقل، وللتكرار، وللتطوير.
ولا تسألني: بأي طريقة أدوّن؟ لأن الجواب الوحيد هو: كما تحب. بخط يدك، في نوت بالجوال، في ملف على سطح المكتب، أو حتى بصوتك. المهم أن تمسك اللحظة قبل أن تهرب، وأن تُوثّق المعنى قبل أن يتبخر.
في النهاية، التدوين ليس رفاهية. هو مهارة مهنية، أداة تفكير، ومرآة شخصية.
دوّن، لأنك تعمل.
دوّن، لأنك تنضج.
دوّن، لأنك ستنسى… وستحتاج أن تتذكر.
Commenti